برنامج اقرؤوا القرآن تصحيح التلاوة للآية رقم 61 من سورة البقرة - لفضيلة الشيخ / ياسر الجندي - حلقة مسجلة من إذاعة القرآن الكريم القاهرة
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ
تفسير بن كثير
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المنَّ والسلوى طعاماً طيباً نافعاً هنيئاً سهلاً، واذكروا ضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى الأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم، قال الحسن البصري: فبطروا وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقل وفوم، فقالوا: { يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها} وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لا يتبدَّل ولا يتغير كل يوم فهو مأكل واحد، وأما الفوم فقال ابن عباس: الثوم، وقال آخرون: الفوم: الحنطةُ وهو البُرَّ الذي يعمل منه الخبز، روي أن ابن عباس سئل عن قول اللّه { وفومها} ما فومها؟ قال: الحنطة. قال ابن عباس: أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول: قد كنت أغنى الناس شخصاً واحداً ** ورد المدينة عن زراعة فوم وقال ابن جرير، عن ابن عباس في قول اللّه تعالى { وفومها} قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم، وقال الجوهري: الفوم الحنطة، وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة: أن الفوم كل حب يختبز، قال: وقال بعضهم: هو الحمص لغة شامية، قال البخاري: وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم، وقوله: { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} ؟ فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنيء الطيب النافع. وقوله تعالى: { اهبطوا مصراً} هكذا هو منون مصروف، وقال ابن عباس: مصراً من الأمصار. والمعنى أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل اللّه فيه. ولهذا قال: { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم} أي ما طلبتم، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه، واللّه أعلم. { وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } يقول تعالى: { وضربت عليهم الذلة والمسكنة} أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعاً وقدراً، أي لا يزالون مستذلين من وَجَدهم استذلهم وأهانهم وضربَ عليهم الصَغاَر، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء مستكينون. يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، قال الضحّاك: { وضربت عليهم الذلة} قال: الذل، وقال الحسن: أذلهم اللّه فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين، ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية، وقال أبو العالية والسُّدي: المسكنةُ الفاقةُ، وقوله تعالى: { وباءوا بغضب من اللّه} استحقوا الغضب من اللّه، وقال ابن جرير: يعني بقوله { وباءوا بغضب من اللّه} : انصرفوا ورجعوا، ولا يقال باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر، يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به، ومنه قوله تعالى: { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} يعني تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني، فمعنى الكلام رجعوا منصرفين متحملين غضب اللّه قد صار عليهم من اللّه غضب ووجب عليهم من اللّه سخط. وقوله تعالى: { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النبيين بغير الحق} يقول اللّه تعالى هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم من الذلة، بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وكفرهم بآيات اللّه وإهانتهم حَمَلة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات اللّه وقتلوا أنبياء اللّه بغير الحق، ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم قال: (الكبر بطرُ الحق وغَمْطُ الناسِ) ""هذا جزء من حديث شريف وأوله (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر..)الحديث""يعني رد الحق وانتقاص الناس والازدراء بهم والتعاظم عليهم. ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات اللّه وقتلهم أنبياءه،أحل اللّه بهم بأسه الذي لا يُرد، وكساهم ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الآخرة جزاءً وفاقاً. عن عبد اللّه بن مسعود قال: (كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار) ""رواه أبو داود الطيالسي""وعن عبد اللّه بن مسعود: أن رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم قال: (أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ قتله نبي أو قَتَل نبيا، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين) ""رواه الإمام أحمد في مسنده""وقوله تعالى: { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون، فالعصيان فعل المناهي، والاعتداءُ المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به، واللّه أعلم.
تفسير الجلالين
{ وإذا قلتم يا موسى لن نصبر على طعام } أي نوع منه { واحد } وهو المن والسلوى { فادع لنا ربَّك يُخرج لنا } شيئاً { مما تنبت الأرض من } للبيان { بقلها وقثائها وفومها } حنطتها { وعدسها وبصلها قال } لهم موسى { أتستبدلون الذي هو أدنى } أخس { بالذي هو خير } أشرف أي أتأخذونه بدله، والهمزة للإنكار فأبوا أن يرجعوا فدعا الله تعالى فقال تعالى { اهبطوا } انزلوا { مصراً } من الأمصار { فإن لكم } فيه { ما سألتم } من النبات { وضُربت } جعلت { عليهم الذلة } الذل والهوان { والمسكنة } أي أثر الفقر من السكون والخزي فهي لازمة لهم، وإن كانوا أغنياء لزوم الدرهم المضروب لسكته { وباءُوا } رجعوا { بغضب من الله ذلك } أي الضرب والغضب { بأنهم } أي بسبب أنهم { كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين } كزكريا ويحيى { بغير الحق } أي ظلماً { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } يتجاوزون الحد في المعاصي وكرره للتأكيد .
تفسير الطبري
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد } قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْل عَلَى مَعْنَى الصَّبْر , وَأَنَّهُ كَفّ النَّفْس وَحَبْسهَا عَنْ الشَّيْء . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَمَعْنَى الْآيَة إذًا : وَاذْكُرُوا إذَا قُلْتُمْ يَا مَعْشَر بَنِي إسْرَائِيل لَنْ نُطِيق حَبْس أَنْفُسنَا عَلَى طَعَام وَاحِد - وَذَلِكَ الطَّعَام الْوَاحِد هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ أَطْعَمَهُمُوهُ فِي تِيههمْ وَهُوَ السَّلْوَى فِي قَوْل بَعْض أَهْل التَّأْوِيل , وَفِي قَوْل وَهْب بْن مُنَبَّه هُوَ الْخُبْز النَّقِيّ مَعَ اللَّحْم - فَاسْأَلْ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ الْبَقْل وَالْقِثَّاء . وَمَا سَمَّى اللَّه مَعَ ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ مُوسَى . وَكَانَ سَبَب مَسْأَلَتهمْ مُوسَى ذَلِكَ فِيمَا بَلَغَنَا , مَا : 885 - حَدَّثَنَا بِهِ بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَوْله : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد } قَالَ : كَانَ الْقَوْم فِي الْبَرِيَّة قَدْ ظَلَّلَ عَلَيْهِمْ الْغَمَام , وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ الْمَنّ وَالسَّلْوَى , فَمَلُّوا ذَلِكَ , وَذَكَرُوا عَيْشًا كَانَ لَهُمْ بِمِصْرَ , فَسَأَلُوهُ مُوسَى , فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : { اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } . * حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد } قَالَ : مَلُّوا طَعَامهمْ , وَذَكَرُوا عَيْشهمْ الَّذِي كَانُوا فِيهِ قَبْل ذَلِكَ , { قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا } . . . الْآيَة . 886 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا آدَم , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة فِي قَوْله : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد } قَالَ : كَانَ طَعَامهمْ السَّلْوَى , وَشَرَابهمْ الْمَنّ , فَسَأَلُوا مَا ذَكَرَ , فَقِيلَ لَهُمْ : { اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } . قَالَ أَبُو جَعْفَر , وَقَالَ قَتَادَةَ : إنَّهُمْ لَمَّا قَدِمُوا الشَّأْم فَقَدُوا أَطْعِمَتهمْ الَّتِي كَانُوا يَأْكُلُونَهَا , فَقَالُوا : { اُدْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسهَا وَبَصَلهَا } وَكَانُوا قَدْ ظَلَّلَ عَلَيْهِمْ الْغَمَام وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ الْمَنّ وَالسَّلْوَى , فَمَلُّوا ذَلِكَ , وَذَكَرُوا عَيْشًا كَانُوا فِيهِ بِمِصْرَ . 887 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى , قَالَ : سَمِعْت ابْن أَبِي نَجِيح فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : { لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد } الْمَنّ وَالسَّلْوَى , فَاسْتَبْدَلُوا بِهِ الْبَقْل وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ . 888 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد بِمِثْلِهِ سَوَاء . * حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد بِمِثْلِهِ . 889 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : أُعْطُوا فِي التِّيه مَا أُعْطُوا , فَمَلُّوا ذَلِكَ وَقَالُوا : { يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد فَادْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومهَا وَعَدَسهَا وَبَصَلهَا } . 890 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : أَنْبَأَنَا ابْن زَيْد , قَالَ : كَانَ طَعَام بَنِي إسْرَائِيل فِي التِّيه وَاحِدًا , وَشَرَابهمْ وَاحِدًا , كَانَ شَرَابهمْ عَسَلًا يَنْزِل لَهُمْ مِنْ السَّمَاء يُقَال لَهُ الْمَنّ , وَطَعَامهمْ طَيْر يُقَال لَهُ السَّلْوَى , يَأْكُلُونَ الطَّيْر وَيَشْرَبُونَ الْعَسَل , لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ خُبْزًا وَلَا غَيْره . فَقَالُوا : يَا مُوسَى إنَّا لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد , فَادْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا ! فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ : { اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } . وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ذِكْره : { يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض } وَلَمْ يَذْكُر الَّذِي سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُو رَبّه لِيُخْرِج لَهُمْ مِنْ الْأَرْض , فَيَقُول : قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا كَذَا وَكَذَا مِمَّا تُنْبِتهُ الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا وَقِثَّائِهَا , لِأَنَّ " مِنْ " تَأْتِي بِمَعْنَى التَّبْعِيض لِمَا بَعْدهَا , فَاكْتَفَى بِهَا عَنْ ذِكْر التَّبْعِيض , إذْ كَانَ مَعْلُومًا بِدُخُولِهَا مَعْنَى مَا أُرِيدَ بِالْكَلَامِ الَّذِي هِيَ فِيهِ كَقَوْلِ الْقَائِل : أَصْبَحَ الْيَوْم عِنْد فُلَان مِنْ الطَّعَام يُرِيد شَيْئًا مِنْهُ . وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ : " مِنْ " هَهُنَا بِمَعْنَى الْإِلْغَاء وَالْإِسْقَاط , كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام عِنْده : يُخْرِج لَنَا مَا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا . وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الْعَرَب : مَا رَأَيْت مِنْ أَحَد , بِمَعْنَى : مَا رَأَيْت أَحَدًا , وَبِقَوْلِ اللَّه : { وَيُكَفِّر عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتكُمْ } 2 271 وَبِقَوْلِهِمْ : قَدْ كَانَ مِنْ حَدِيث , فَخَلّ عَنِّي حَتَّى أَذَهَبَ , يُرِيدُونَ : قَدْ كَانَ حَدِيث . وَقَدْ أَنْكَرَ مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة جَمَاعَة أَنْ تَكُون " مِنْ " بِمَعْنَى الْإِلْغَاء فِي شَيْء مِنْ الْكَلَام , وَادْعُوا أَنَّ دُخُولهَا فِي كُلّ مَوْضِع دَخَلَتْ فِيهِ مُؤَذِّن أَنَّ الْمُتَكَلِّم مُرِيد لِبَعْضِ مَا أُدْخِلَتْ فِيهِ لَا جَمِيعه , وَأَنَّهَا لَا تَدْخُل فِي مَوْضِع إلَّا لِمَعْنَى مَفْهُوم . فَتَأْوِيل الْكَلَام إذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَمْر مِنْ ذِكْرنَا : فَادْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا بَعْض مَا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا وَقِثَّائِهَا . وَالْبَقْل وَالْقِثَّاء وَالْعَدَس وَالْبَصَل , هُوَ مَا قَدْ عَرَفَهُ النَّاس بَيْنهمْ مِنْ نَبَات الْأَرْض وَحُبّهَا . وَأَمَّا الْفُوم , فَإِنَّ أَهْل التَّأْوِيل اخْتَلَفُوا فِيهِ . فَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ الْحِنْطَة وَالْخُبْز . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ . 891 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَد وَمُؤَمَّل , قَالَا : ثنا سُفْيَان , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ عَطَاء , قَالَ : الْفُوم : الْخُبْز . * حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد , ثنا سُفْيَان , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاء وَمُجَاهِد قَوْله : { وَفُومهَا } قَالَا : خُبْزهَا . * حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْن يَحْيَى بْن أَبِي زَائِدَة وَمُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَا : ثنا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى بْن مَيْمُون , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { وَفُومهَا } قَالَ : الْخَبَز . 892 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَن : الْفُوم : هُوَ الْحُبّ الَّذِي يَخْتَبِزهُ النَّاس . * حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَن بِمِثْلِهِ . 893 - حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا هُشَيْم , قَالَ : اُخْبُرْنَا حُصَيْن , عَنْ أَبِي مَالِك فِي قَوْله : { وَفُومهَا } قَالَ : الْحِنْطَة . 894 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط بْن نَصْر عَنْ السُّدِّيّ : { وَفُومهَا } الْحِنْطَة . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن عَوْن , قَالَ : ثنا هُشَيْم , عَنْ يُونُس , عَنْ الْحَسَن وَحُصَيْن , عَنْ أَبِي مَالِك فِي قَوْله : { وَفُومهَا } : الْحِنْطَة . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا آدَم , قَالَ : ثنا أَبُو جَعْفَر الرَّازِيُّ , عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : الْفُوم : الْحَبّ الَّذِي يَخْتَبِز النَّاس مِنْهُ . * حَدَّثَنِي الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ لِي عَطَاء بْن أَبِي رِيَاح قَوْله : { وَفُومهَا } قَالَ : خُبْزهَا . قَالَهَا مُجَاهِد . 895 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ لِي ابْن زَيْد : الْفُوم : الْخُبْز . 896 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْن عُثْمَان السَّهْمِيّ , قَالَ : ثنا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { وَفُومهَا } يَقُول : الْحِنْطَة وَالْخُبْز . * حُدِّثْت عَنْ المنجاب , قَالَ : ثنا بِشْر , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { وَفُومهَا } قَالَ : هُوَ الْبُرّ بِعَيْنِهِ الْحِنْطَة . * حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن الْحَسَن , قَالَ : ثنا مُسْلِم الْجَرْمِيّ , قَالَ : ثنا عِيسَى بْن يُونُس , عَنْ رِشْدِينَ بْن كُرَيْبٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : { وَفُومهَا } قَالَ : الْفُوم : الْحِنْطَة بِلِسَانِ بَنِي هَاشِم . 897 - حَدَّثَنِي عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْحَكَم , قَالَ : ثنا عَبْد الْعَزِيز بْن مَنْصُور , عَنْ نَافِع بْن أَبِي نُعَيْم أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس سُئِلَ عَنْ قَوْل اللَّه : { وَفُومهَا } قَالَ : الْحِنْطَة أَمَا سَمِعْت قَوْل أُحَيْحَة بْن الْجُلَاح وَهُوَ يَقُول : قَدْ كُنْت أَغْنَى النَّاس شَخْصًا وَاحِدًا وَرَدَ الْمَدِينَة عَنْ زِرَاعَة فُوم وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ الثُّوم . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 898 - حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن إسْحَاق الْأَهْوَازِيّ , قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَد , قَالَ : ثنا شَرِيك , عَنْ لَيْث , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : هُوَ هَذَا الثُّوم . 899 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ . ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , قَالَ : الْفُوم : الثُّوم . وَهُوَ فِي بَعْض الْقِرَاءَات " وَثُومهَا " . وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ تَسْمِيَة الْحِنْطَة وَالْخُبْز جَمِيعًا فُومًا مِنْ اللُّغَة الْقَدِيمَة , حُكِيَ سَمَاعًا مِنْ أَهْل هَذِهِ اللُّغَة : فُومُوا لَنَا , بِمَعْنَى اخْتَبِزُوا لَنَا ; وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود " وَثُومهَا " بِالثَّاءِ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ مِنْ الْحُرُوف الْمُبَدَّلَة , كَقَوْلِهِمْ : وَقَعُوا فِي عَاثُور شَرّ وعافور شَرّ , وَكَقَوْلِهِمْ لِلْأَثَافِيِّ أَثَاثِي , وَلِلْمَغَافِيرِ مَغَاثِير , وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ مِمَّا تُقْلَب الثَّاء فَاء وَالْفَاء ثَاء لِتَقَارُبِ مَخْرَج الْفَاء مِنْ مَخْرَج الثَّاء . وَالْمَغَافِير شَبِيه بِالشَّيْءِ الْحُلْو يُشْبِه بِالْعَسَلِ يَنْزِل مِنْ السَّمَاء حُلْوًا يَقَع عَلَى الشَّجَر وَنَحْوهَا . الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد } قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْل عَلَى مَعْنَى الصَّبْر , وَأَنَّهُ كَفّ النَّفْس وَحَبْسهَا عَنْ الشَّيْء . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَمَعْنَى الْآيَة إذًا : وَاذْكُرُوا إذَا قُلْتُمْ يَا مَعْشَر بَنِي إسْرَائِيل لَنْ نُطِيق حَبْس أَنْفُسنَا عَلَى طَعَام وَاحِد - وَذَلِكَ الطَّعَام الْوَاحِد هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ أَطْعَمَهُمُوهُ فِي تِيههمْ وَهُوَ السَّلْوَى فِي قَوْل بَعْض أَهْل التَّأْوِيل , وَفِي قَوْل وَهْب بْن مُنَبَّه هُوَ الْخُبْز النَّقِيّ مَعَ اللَّحْم - فَاسْأَلْ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ الْبَقْل وَالْقِثَّاء . وَمَا سَمَّى اللَّه مَعَ ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ مُوسَى . وَكَانَ سَبَب مَسْأَلَتهمْ مُوسَى ذَلِكَ فِيمَا بَلَغَنَا , مَا : 885 - حَدَّثَنَا بِهِ بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَوْله : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد } قَالَ : كَانَ الْقَوْم فِي الْبَرِيَّة قَدْ ظَلَّلَ عَلَيْهِمْ الْغَمَام , وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ الْمَنّ وَالسَّلْوَى , فَمَلُّوا ذَلِكَ , وَذَكَرُوا عَيْشًا كَانَ لَهُمْ بِمِصْرَ , فَسَأَلُوهُ مُوسَى , فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : { اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } . * حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد } قَالَ : مَلُّوا طَعَامهمْ , وَذَكَرُوا عَيْشهمْ الَّذِي كَانُوا فِيهِ قَبْل ذَلِكَ , { قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا } . . . الْآيَة . 886 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا آدَم , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة فِي قَوْله : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد } قَالَ : كَانَ طَعَامهمْ السَّلْوَى , وَشَرَابهمْ الْمَنّ , فَسَأَلُوا مَا ذَكَرَ , فَقِيلَ لَهُمْ : { اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } . قَالَ أَبُو جَعْفَر , وَقَالَ قَتَادَةَ : إنَّهُمْ لَمَّا قَدِمُوا الشَّأْم فَقَدُوا أَطْعِمَتهمْ الَّتِي كَانُوا يَأْكُلُونَهَا , فَقَالُوا : { اُدْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسهَا وَبَصَلهَا } وَكَانُوا قَدْ ظَلَّلَ عَلَيْهِمْ الْغَمَام وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ الْمَنّ وَالسَّلْوَى , فَمَلُّوا ذَلِكَ , وَذَكَرُوا عَيْشًا كَانُوا فِيهِ بِمِصْرَ . 887 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى , قَالَ : سَمِعْت ابْن أَبِي نَجِيح فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : { لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد } الْمَنّ وَالسَّلْوَى , فَاسْتَبْدَلُوا بِهِ الْبَقْل وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ . 888 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد بِمِثْلِهِ سَوَاء . * حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد بِمِثْلِهِ . 889 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : أُعْطُوا فِي التِّيه مَا أُعْطُوا , فَمَلُّوا ذَلِكَ وَقَالُوا : { يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد فَادْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومهَا وَعَدَسهَا وَبَصَلهَا } . 890 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : أَنْبَأَنَا ابْن زَيْد , قَالَ : كَانَ طَعَام بَنِي إسْرَائِيل فِي التِّيه وَاحِدًا , وَشَرَابهمْ وَاحِدًا , كَانَ شَرَابهمْ عَسَلًا يَنْزِل لَهُمْ مِنْ السَّمَاء يُقَال لَهُ الْمَنّ , وَطَعَامهمْ طَيْر يُقَال لَهُ السَّلْوَى , يَأْكُلُونَ الطَّيْر وَيَشْرَبُونَ الْعَسَل , لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ خُبْزًا وَلَا غَيْره . فَقَالُوا : يَا مُوسَى إنَّا لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد , فَادْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا ! فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ : { اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } . وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ذِكْره : { يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض } وَلَمْ يَذْكُر الَّذِي سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُو رَبّه لِيُخْرِج لَهُمْ مِنْ الْأَرْض , فَيَقُول : قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا كَذَا وَكَذَا مِمَّا تُنْبِتهُ الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا وَقِثَّائِهَا , لِأَنَّ " مِنْ " تَأْتِي بِمَعْنَى التَّبْعِيض لِمَا بَعْدهَا , فَاكْتَفَى بِهَا عَنْ ذِكْر التَّبْعِيض , إذْ كَانَ مَعْلُومًا بِدُخُولِهَا مَعْنَى مَا أُرِيدَ بِالْكَلَامِ الَّذِي هِيَ فِيهِ كَقَوْلِ الْقَائِل : أَصْبَحَ الْيَوْم عِنْد فُلَان مِنْ الطَّعَام يُرِيد شَيْئًا مِنْهُ . وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ : " مِنْ " هَهُنَا بِمَعْنَى الْإِلْغَاء وَالْإِسْقَاط , كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام عِنْده : يُخْرِج لَنَا مَا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا . وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الْعَرَب : مَا رَأَيْت مِنْ أَحَد , بِمَعْنَى : مَا رَأَيْت أَحَدًا , وَبِقَوْلِ اللَّه : { وَيُكَفِّر عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتكُمْ } 2 271 وَبِقَوْلِهِمْ : قَدْ كَانَ مِنْ حَدِيث , فَخَلّ عَنِّي حَتَّى أَذَهَبَ , يُرِيدُونَ : قَدْ كَانَ حَدِيث . وَقَدْ أَنْكَرَ مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة جَمَاعَة أَنْ تَكُون " مِنْ " بِمَعْنَى الْإِلْغَاء فِي شَيْء مِنْ الْكَلَام , وَادْعُوا أَنَّ دُخُولهَا فِي كُلّ مَوْضِع دَخَلَتْ فِيهِ مُؤَذِّن أَنَّ الْمُتَكَلِّم مُرِيد لِبَعْضِ مَا أُدْخِلَتْ فِيهِ لَا جَمِيعه , وَأَنَّهَا لَا تَدْخُل فِي مَوْضِع إلَّا لِمَعْنَى مَفْهُوم . فَتَأْوِيل الْكَلَام إذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَمْر مِنْ ذِكْرنَا : فَادْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا بَعْض مَا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا وَقِثَّائِهَا . وَالْبَقْل وَالْقِثَّاء وَالْعَدَس وَالْبَصَل , هُوَ مَا قَدْ عَرَفَهُ النَّاس بَيْنهمْ مِنْ نَبَات الْأَرْض وَحُبّهَا . وَأَمَّا الْفُوم , فَإِنَّ أَهْل التَّأْوِيل اخْتَلَفُوا فِيهِ . فَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ الْحِنْطَة وَالْخُبْز . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ . 891 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَد وَمُؤَمَّل , قَالَا : ثنا سُفْيَان , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ عَطَاء , قَالَ : الْفُوم : الْخُبْز . * حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد , ثنا سُفْيَان , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاء وَمُجَاهِد قَوْله : { وَفُومهَا } قَالَا : خُبْزهَا . * حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْن يَحْيَى بْن أَبِي زَائِدَة وَمُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَا : ثنا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى بْن مَيْمُون , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { وَفُومهَا } قَالَ : الْخَبَز . 892 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَن : الْفُوم : هُوَ الْحُبّ الَّذِي يَخْتَبِزهُ النَّاس . * حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَن بِمِثْلِهِ . 893 - حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا هُشَيْم , قَالَ : اُخْبُرْنَا حُصَيْن , عَنْ أَبِي مَالِك فِي قَوْله : { وَفُومهَا } قَالَ : الْحِنْطَة . 894 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط بْن نَصْر عَنْ السُّدِّيّ : { وَفُومهَا } الْحِنْطَة . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن عَوْن , قَالَ : ثنا هُشَيْم , عَنْ يُونُس , عَنْ الْحَسَن وَحُصَيْن , عَنْ أَبِي مَالِك فِي قَوْله : { وَفُومهَا } : الْحِنْطَة . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا آدَم , قَالَ : ثنا أَبُو جَعْفَر الرَّازِيُّ , عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : الْفُوم : الْحَبّ الَّذِي يَخْتَبِز النَّاس مِنْهُ . * حَدَّثَنِي الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ لِي عَطَاء بْن أَبِي رِيَاح قَوْله : { وَفُومهَا } قَالَ : خُبْزهَا . قَالَهَا مُجَاهِد . 895 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ لِي ابْن زَيْد : الْفُوم : الْخُبْز . 896 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْن عُثْمَان السَّهْمِيّ , قَالَ : ثنا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { وَفُومهَا } يَقُول : الْحِنْطَة وَالْخُبْز . * حُدِّثْت عَنْ المنجاب , قَالَ : ثنا بِشْر , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { وَفُومهَا } قَالَ : هُوَ الْبُرّ بِعَيْنِهِ الْحِنْطَة . * حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن الْحَسَن , قَالَ : ثنا مُسْلِم الْجَرْمِيّ , قَالَ : ثنا عِيسَى بْن يُونُس , عَنْ رِشْدِينَ بْن كُرَيْبٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : { وَفُومهَا } قَالَ : الْفُوم : الْحِنْطَة بِلِسَانِ بَنِي هَاشِم . 897 - حَدَّثَنِي عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْحَكَم , قَالَ : ثنا عَبْد الْعَزِيز بْن مَنْصُور , عَنْ نَافِع بْن أَبِي نُعَيْم أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس سُئِلَ عَنْ قَوْل اللَّه : { وَفُومهَا } قَالَ : الْحِنْطَة أَمَا سَمِعْت قَوْل أُحَيْحَة بْن الْجُلَاح وَهُوَ يَقُول : قَدْ كُنْت أَغْنَى النَّاس شَخْصًا وَاحِدًا وَرَدَ الْمَدِينَة عَنْ زِرَاعَة فُوم وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ الثُّوم . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 898 - حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن إسْحَاق الْأَهْوَازِيّ , قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَد , قَالَ : ثنا شَرِيك , عَنْ لَيْث , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : هُوَ هَذَا الثُّوم . 899 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ . ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , قَالَ : الْفُوم : الثُّوم . وَهُوَ فِي بَعْض الْقِرَاءَات " وَثُومهَا " . وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ تَسْمِيَة الْحِنْطَة وَالْخُبْز جَمِيعًا فُومًا مِنْ اللُّغَة الْقَدِيمَة , حُكِيَ سَمَاعًا مِنْ أَهْل هَذِهِ اللُّغَة : فُومُوا لَنَا , بِمَعْنَى اخْتَبِزُوا لَنَا ; وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود " وَثُومهَا " بِالثَّاءِ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ مِنْ الْحُرُوف الْمُبَدَّلَة , كَقَوْلِهِمْ : وَقَعُوا فِي عَاثُور شَرّ وعافور شَرّ , وَكَقَوْلِهِمْ لِلْأَثَافِيِّ أَثَاثِي , وَلِلْمَغَافِيرِ مَغَاثِير , وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ مِمَّا تُقْلَب الثَّاء فَاء وَالْفَاء ثَاء لِتَقَارُبِ مَخْرَج الْفَاء مِنْ مَخْرَج الثَّاء . وَالْمَغَافِير شَبِيه بِالشَّيْءِ الْحُلْو يُشْبِه بِالْعَسَلِ يَنْزِل مِنْ السَّمَاء حُلْوًا يَقَع عَلَى الشَّجَر وَنَحْوهَا .' الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْر } يَعْنِي بِقَوْلِهِ : { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْر } قَالَ لَهُمْ مُوسَى : أَتَأْخُذُونَ الَّذِي هُوَ أَخَسّ خَطَرًا وَقِيمَة وَقَدْرًا مِنْ الْعَيْش , بَدَلًا بِاَلَّذِي هُوَ خَيْر مِنْهُ خَطَرًا وَقِيمَة وَقَدْرًا ! وَذَلِكَ كَانَ اسْتِبْدَالهمْ . وَأَصْل الِاسْتِبْدَال : هُوَ تَرْك شَيْء لِآخَر غَيْره مَكَان الْمَتْرُوك . وَمَعْنَى قَوْله : { أَدْنَى } أَخَسّ وَأَوْضَع وَأَصْغَر قَدْرًا وَخَطَرًا , وَأَصْله مِنْ قَوْلهمْ : هَذَا رَجُل دَنِيّ بَيِّن الدَّنَاءَة , وَإِنَّهُ لَيُدْنِي فِي الْأُمُور بِغَيْرِ هَمْز إذَا كَانَ يَتَتَبَّع خَسِيسهَا . وَقَدْ ذُكِرَ الْهَمْز عَنْ بَعْض الْعَرَب فِي ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْهُمْ , يَقُولُونَ : مَا كُنْت دَنِيًّا وَلَقَدْ دَنَأْتُ . وَأَنْشَدَنِي بَعْض أَصْحَابنَا عَنْ غَيْره أَنَّهُ سَمِعَ بَعْض بَنِي كِلَاب يَنْشُد بَيْت الْأَعْشَى : بَاسِلَة الْوَاقِع سَرَابِيلهَا بِيض إلَى دَانِئِهَا الظَّاهِر بِهَمْزِ الدَّانِئ , وَأَنَّهُ سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَدَانِئ خَبِيث , بِالْهَمْزِ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْهُمْ صَحِيحًا , فَالْهَمْز فِيهِ لُغَة وَتَرْكه أُخْرَى . وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اُسْتُبْدِلَ بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى الْبَقْل وَالْقِثَّاء وَالْعَدَس وَالْبَصَل وَالثُّوم , فَقَدْ اُسْتُبْدِلَ الْوَضِيع مِنْ الْعَيْش الرَّفِيع مِنْهُ . وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضهمْ قَوْله : { الَّذِي هُوَ أَدْنَى } بِمَعْنَى الَّذِي هُوَ أَقْرَب , وَوَجْه قَوْله : { أَدْنَى } إلَى أَنَّهُ أَفْعَل مِنْ الدُّنُوّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْقُرْب . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْله : { الَّذِي هُوَ أَدْنَى } قَالَهُ عَدَد مِنْ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيله . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 900 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْر } يَقُول : أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ شَرّ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْر مِنْهُ . 901 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد قَوْله : { الَّذِي هُوَ أَدْنَى } قَالَ : أَرْدَأ . الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْر } يَعْنِي بِقَوْلِهِ : { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْر } قَالَ لَهُمْ مُوسَى : أَتَأْخُذُونَ الَّذِي هُوَ أَخَسّ خَطَرًا وَقِيمَة وَقَدْرًا مِنْ الْعَيْش , بَدَلًا بِاَلَّذِي هُوَ خَيْر مِنْهُ خَطَرًا وَقِيمَة وَقَدْرًا ! وَذَلِكَ كَانَ اسْتِبْدَالهمْ . وَأَصْل الِاسْتِبْدَال : هُوَ تَرْك شَيْء لِآخَر غَيْره مَكَان الْمَتْرُوك . وَمَعْنَى قَوْله : { أَدْنَى } أَخَسّ وَأَوْضَع وَأَصْغَر قَدْرًا وَخَطَرًا , وَأَصْله مِنْ قَوْلهمْ : هَذَا رَجُل دَنِيّ بَيِّن الدَّنَاءَة , وَإِنَّهُ لَيُدْنِي فِي الْأُمُور بِغَيْرِ هَمْز إذَا كَانَ يَتَتَبَّع خَسِيسهَا . وَقَدْ ذُكِرَ الْهَمْز عَنْ بَعْض الْعَرَب فِي ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْهُمْ , يَقُولُونَ : مَا كُنْت دَنِيًّا وَلَقَدْ دَنَأْتُ . وَأَنْشَدَنِي بَعْض أَصْحَابنَا عَنْ غَيْره أَنَّهُ سَمِعَ بَعْض بَنِي كِلَاب يَنْشُد بَيْت الْأَعْشَى : بَاسِلَة الْوَاقِع سَرَابِيلهَا بِيض إلَى دَانِئِهَا الظَّاهِر بِهَمْزِ الدَّانِئ , وَأَنَّهُ سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَدَانِئ خَبِيث , بِالْهَمْزِ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْهُمْ صَحِيحًا , فَالْهَمْز فِيهِ لُغَة وَتَرْكه أُخْرَى . وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اُسْتُبْدِلَ بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى الْبَقْل وَالْقِثَّاء وَالْعَدَس وَالْبَصَل وَالثُّوم , فَقَدْ اُسْتُبْدِلَ الْوَضِيع مِنْ الْعَيْش الرَّفِيع مِنْهُ . وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضهمْ قَوْله : { الَّذِي هُوَ أَدْنَى } بِمَعْنَى الَّذِي هُوَ أَقْرَب , وَوَجْه قَوْله : { أَدْنَى } إلَى أَنَّهُ أَفْعَل مِنْ الدُّنُوّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْقُرْب . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْله : { الَّذِي هُوَ أَدْنَى } قَالَهُ عَدَد مِنْ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيله . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 900 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْر } يَقُول : أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ شَرّ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْر مِنْهُ . 901 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد قَوْله : { الَّذِي هُوَ أَدْنَى } قَالَ : أَرْدَأ . ' الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } وَتَأْوِيل ذَلِكَ : فَدَعَا مُوسَى فَاسْتَجَبْنَا لَهُ , فَقُلْنَا لَهُمْ : اهْبِطُوا مِصْر . وَهُوَ مِنْ الْمَحْذُوف الَّذِي اُجْتُزِئَ بِدَلَالَةِ ظَاهِره عَلَى ذِكْر مَا حُذِفَ وَتُرِكَ مِنْهُ . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْهُبُوط إلَى الْمَكَان إنَّمَا هُوَ النُّزُول إلَيْهِ وَالْحُلُول بِهِ . فَتَأْوِيل الْآيَة إذًا : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد فَادْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومهَا وَعَدَسهَا وَبَصَلهَا } قَالَ لَهُمْ مُوسَى : أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَخَسّ وَأَرْدَأ مِنْ الْعَيْش بِاَلَّذِي هُوَ خَيْر مِنْهُ ؟ فَدَعَا لَهُمْ مُوسَى رَبّه أَنْ يُعْطِيهِمْ مَا سَأَلُوهُ , فَاسْتَجَابَ اللَّه لَهُ دُعَاءَهُ , فَأَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوا , وَقَالَ اللَّه لَهُمْ : { اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } . ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة قَوْله : { مِصْرًا } فَقَرَأَهُ عَامَّة الْقُرَّاء : " مِصْرًا " بِتَنْوِينِ الْمِصْر وَإِجْرَائِهِ ; وَقَرَأَهُ بَعْضهمْ بِتَرْكِ التَّنْوِين وَحَذْف الْأَلِف مِنْهُ . فَأَمَّا الَّذِينَ نَوَّنُوهُ وَأَجْرَوْهُ , فَإِنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار لَا مِصْرًا بِعَيْنِهِ , فَتَأْوِيله عَلَى قِرَاءَتهمْ : اهْبِطُوا مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار , لِأَنَّكُمْ فِي الْبَدْو , وَاَلَّذِي طَلَبْتُمْ لَا يَكُون فِي الْبَوَادِي وَالْفَيَافِي , وَإِنَّمَا يَكُون فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَار , فَإِنَّ لَكُمْ إذَا هَبَطْتُمُوهُ مَا سَأَلْتُمْ مِنْ الْعَيْش . وَقَدْ يَجُوز أَنْ يَكُون بَعْض مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْإِجْرَاءِ وَالتَّنْوِين , كَانَ تَأْوِيل الْكَلَام عِنْده : اهْبِطُوا مِصْرًا الْبَلْدَة الَّتِي تُعْرَف بِهَذَا الِاسْم وَهِيَ " مِصْر " الَّتِي خَرَجُوا عَنْهَا , غَيْر أنه أَجْرَاهَا وَنَوَّنَهَا اتِّبَاعًا منه خَطّ الْمُصْحَف , لِأَنَّ فِي الْمُصْحَف أَلِفًا ثَابِتَة فِي مِصْر , فَيَكُون سَبِيل قِرَاءتِهِ ذَلِكَ بِالْإِجْرَاء وَالتَّنْوِين سَبِيل مَنْ قَرَأَ : { قَوَارِيرًا قَوَارِيرًا مِنْ فِضَّة } 76 15 : 16 مُنَوَّنَة اتِّبَاعًا مِنْهُ خَطّ الْمُصْحَف . وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يُنَوِّن مِصْر فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَنَى مِصْر الَّتِي تَعْرِف بِهَذَا الِاسْم بِعَيْنِهَا دُون سَائِر الْبَلَدَانِ غَيْرهَا . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي ذَلِكَ نَظِير اخْتِلَاف الْقُرَّاء فِي قِرَاءَته . 902 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { اهْبِطُوا مِصْرًا } أَيْ مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار { فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } . 903 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { اهْبِطُوا مِصْرًا } مِنْ الْأَمْصَار , { فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ التِّيه رُفِعَ الْمَنّ وَالسَّلْوَى وَأَكَلُوا الْبُقُول . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنِي آدَم , قَالَ : ثنا أَبُو جَعْفَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { اهْبِطُوا مِصْرًا } قَالَ : يَعْنِي مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار . 904 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد : { اهْبِطُوا مِصْرًا } قَالَ : مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار , زَعَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَرْجِعُوا إلَى مِصْر . 905 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد : { اهْبِطُوا مِصْرًا } قَالَ : مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار . وَمِصْر لَا تَجْرِي فِي الْكَلَام , فَقِيلَ : أَيْ مِصْر ؟ فَقَالَ : الْأَرْض الْمُقَدَّسَة الَّتِي كَتَبَ اللَّه لَهُمْ . وَقَرَأَ قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { اُدْخُلُوا الْأَرْض الْمُقَدَّسَة الَّتِي كَتَبَ اللَّه لَكُمْ } 5 21 وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ مِصْر الَّتِي كَانَ فِيهَا فِرْعَوْن . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 906 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , ثنا آدَم , ثنا أَبُو جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة فِي قَوْله : { اهْبِطُوا مِصْرًا } قَالَ : يَعْنِي بِهِ مِصْر فِرْعَوْن . 907 - حَدَّثَنَا عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , عَنْ ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , مِثْله . وَمِنْ حُجَّة مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ : { اهْبِطُوا مِصْرًا } مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار دُون مِصْر فِرْعَوْن بِعَيْنِهَا , أَنَّ اللَّه حَمَلَ أَرْض الشَّام لِبَنِي إسْرَائِيل مَسَاكِن بَعْد أَنْ أَخَرَجَهُمْ مِنْ مِصْر , وَإِنَّمَا ابْتَلَاهُمْ بِالتِّيهِ بِامْتِنَاعِهِمْ عَلَى مُوسَى فِي حَرْب الْجَبَابِرَة إذْ قَالَ لَهُمْ : { يَا قَوْم اُدْخُلُوا الْأَرْض الْمُقَدَّسَة الَّتِي كَتَبَ اللَّه لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَاركُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ } إلَى قَوْله : { إنَّا لَنْ نَدْخُلهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } 5 21 : 24 فَحَرَّمَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ عَلَى قَائِل ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا دُخُولهَا حَتَّى هَلَكُوا فِي التِّيه وَابْتَلَاهُمْ بِالتَّيْهَانِ فِي الْأَرْض أَرْبَعِينَ سَنَة , ثُمَّ أَهَبَطَ ذُرِّيَّتهَا الشَّام , فَأَسْكَنَهُمْ الْأَرْض الْمُقَدَّسَة , وَجَعَلَ هَلَاك الْجَبَابِرَة عَلَى أَيْدِيهمْ مَعَ يُوشَع بْن نُون بَعْد وَفَاة مُوسَى بْن عِمْرَان . فَرَأَيْنَا اللَّه جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ كَتَبَ لَهُمْ الْأَرْض الْمُقَدَّسَة وَلَمْ يُخْبِرنَا عَنْهُمْ أَنَّهُ رَدَّهُمْ إلَى مِصْر بَعْد إخْرَاجه إيَّاهُمْ مِنْهَا , فَيَجُوز لَنَا أَنْ نَقْرَأ اهْبِطُوا مِصْر , وَنَتَأَوَّلهُ أَنَّهُ رَدَّهُمْ إلَيْهَا . قَالُوا : فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجّ بِقَوْلِ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّات وَعُيُون وَكُنُوز وَمَقَام كَرِيم كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إسْرَائِيل } 26 57 : 59 قِيلَ لَهُمْ : فَإِنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا أَوْرَثَهُمْ ذَلِكَ فَمَلَّكَهُمْ إيَّاهَا وَلَمْ يَرُدّهُمْ إلَيْهَا , وَجَعَلَ مَسَاكِنهمْ الشَّأْم . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ اللَّه إنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ : { اهْبِطُوا مِصْرًا } مِصْر , فَإِنَّ مِنْ حُجَّتهمْ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا الْآيَة الَّتِي قَالَ فِيهَا : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّات وَعُيُون وَكُنُوز وَمَقَام كَرِيم كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهُمْ بَنِي إسْرَائِيل } 26 57 : 59 وَقَوْله : { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّات وَعُيُون وَزُرُوع وَمَقَام كَرِيم وَنَعْمَة كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ } 44 25 : 28 قَالُوا : فَأَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ قَدْ وَرَّثَهُمْ ذَلِكَ وَجَعَلَهَا لَهُمْ , فَلَمْ يَكُونُوا يَرِثُونَهَا ثُمَّ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا . قَالُوا : وَلَا يَكُونُونَ مُنْتَفَعِينَ بِهَا إلَّا بِمُصِيرِ بَعْضهمْ إلَيْهَا , وَإِلَّا فَلَا وَجْه لِلِانْتِفَاعِ بِهَا إنْ لَمْ يَصِيرُوا أَوْ يَصِرْ بَعْضهمْ إلَيْهَا . قَالُوا : وَأُخْرَى أَنَّهَا فِي قِرَاءَة أُبَيّ بْن كَعْب وَعَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : " اهْبِطُوا مِصْر " بِغَيْرِ أَلِف , قَالُوا : فَفِي ذَلِكَ الدَّلَالَة الْبَيِّنَة أَنَّهَا مِصْر بِعَيْنِهَا . وَاَلَّذِي نَقُول بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا دَلَالَة فِي كِتَاب اللَّه عَلَى الصَّوَاب مِنْ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ , وَلَا خَبَر بِهِ عَنْ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقْطَع مَجِيئَهُ الْعُذْر , وَأَهْل التَّأْوِيل مُتَنَازِعُونَ تَأْوِيله . فَأَوْلَى الْأَقْوَال فِي ذَلِكَ عِنْدنَا بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَال : إنَّ مُوسَى سَأَلَ رَبّه أَنْ يُعْطِيَ قَوْمه مَا سَأَلُوهُ مِنْ نَبَات الْأَرْض عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ فِي كِتَابه وَهُمْ فِي الْأَرْض تَائِهُونَ , فَاسْتَجَابَ اللَّه لِمُوسَى دُعَاءَهُ , وَأَمَرَهُ أَنْ يَهْبِط بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمه قَرَارًا مِنْ الْأَرْض الَّتِي تُنْبِت لَهُمْ مَا سَأَلَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ , إذْ كَانَ الَّذِي سَأَلُوهُ لَا تُنْبِتهُ إلَّا الْقُرَى وَالْأَمْصَار وَأَنَّهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ إذْ صَارُوا إلَيْهِ , وَجَائِز أَنْ يَكُون ذَلِكَ الْقَرَار مِصْر , وَجَائِز أَنْ يَكُون الشَّأْم . فَأَمَّا الْقِرَاءَة فَإِنَّهَا بِالْأَلِفِ وَالتَّنْوِين : { اهْبِطُوا مِصْرًا } وَهِيَ الْقِرَاءَة الَّتِي لَا يَجُوز عِنْدِي غَيْرهَا لِاجْتِمَاعِ خُطُوط مَصَاحِف الْمُسْلِمِينَ , وَاتِّفَاق قِرَاءَة الْقُرَّاء عَلَى ذَلِكَ . وَلَمْ يُقْرَأ بِتَرْكِ التَّنْوِين فِيهِ وَإِسْقَاط الْأَلِف مِنْهُ إلَّا مَنْ لَا يَجُوز الِاعْتِرَاض بِهِ عَلَى الْحُجَّة فِيمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ الْقِرَاءَة مُسْتَفِيضًا بَيْنهمَا . الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } وَتَأْوِيل ذَلِكَ : فَدَعَا مُوسَى فَاسْتَجَبْنَا لَهُ , فَقُلْنَا لَهُمْ : اهْبِطُوا مِصْر . وَهُوَ مِنْ الْمَحْذُوف الَّذِي اُجْتُزِئَ بِدَلَالَةِ ظَاهِره عَلَى ذِكْر مَا حُذِفَ وَتُرِكَ مِنْهُ . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْهُبُوط إلَى الْمَكَان إنَّمَا هُوَ النُّزُول إلَيْهِ وَالْحُلُول بِهِ . فَتَأْوِيل الْآيَة إذًا : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِر عَلَى طَعَام وَاحِد فَادْعُ لَنَا رَبّك يُخْرِج لَنَا مِمَّا تُنْبِت الْأَرْض مِنْ بَقْلهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومهَا وَعَدَسهَا وَبَصَلهَا } قَالَ لَهُمْ مُوسَى : أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَخَسّ وَأَرْدَأ مِنْ الْعَيْش بِاَلَّذِي هُوَ خَيْر مِنْهُ ؟ فَدَعَا لَهُمْ مُوسَى رَبّه أَنْ يُعْطِيهِمْ مَا سَأَلُوهُ , فَاسْتَجَابَ اللَّه لَهُ دُعَاءَهُ , فَأَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوا , وَقَالَ اللَّه لَهُمْ : { اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } . ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة قَوْله : { مِصْرًا } فَقَرَأَهُ عَامَّة الْقُرَّاء : " مِصْرًا " بِتَنْوِينِ الْمِصْر وَإِجْرَائِهِ ; وَقَرَأَهُ بَعْضهمْ بِتَرْكِ التَّنْوِين وَحَذْف الْأَلِف مِنْهُ . فَأَمَّا الَّذِينَ نَوَّنُوهُ وَأَجْرَوْهُ , فَإِنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار لَا مِصْرًا بِعَيْنِهِ , فَتَأْوِيله عَلَى قِرَاءَتهمْ : اهْبِطُوا مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار , لِأَنَّكُمْ فِي الْبَدْو , وَاَلَّذِي طَلَبْتُمْ لَا يَكُون فِي الْبَوَادِي وَالْفَيَافِي , وَإِنَّمَا يَكُون فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَار , فَإِنَّ لَكُمْ إذَا هَبَطْتُمُوهُ مَا سَأَلْتُمْ مِنْ الْعَيْش . وَقَدْ يَجُوز أَنْ يَكُون بَعْض مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْإِجْرَاءِ وَالتَّنْوِين , كَانَ تَأْوِيل الْكَلَام عِنْده : اهْبِطُوا مِصْرًا الْبَلْدَة الَّتِي تُعْرَف بِهَذَا الِاسْم وَهِيَ " مِصْر " الَّتِي خَرَجُوا عَنْهَا , غَيْر أنه أَجْرَاهَا وَنَوَّنَهَا اتِّبَاعًا منه خَطّ الْمُصْحَف , لِأَنَّ فِي الْمُصْحَف أَلِفًا ثَابِتَة فِي مِصْر , فَيَكُون سَبِيل قِرَاءتِهِ ذَلِكَ بِالْإِجْرَاء وَالتَّنْوِين سَبِيل مَنْ قَرَأَ : { قَوَارِيرًا قَوَارِيرًا مِنْ فِضَّة } 76 15 : 16 مُنَوَّنَة اتِّبَاعًا مِنْهُ خَطّ الْمُصْحَف . وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يُنَوِّن مِصْر فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَنَى مِصْر الَّتِي تَعْرِف بِهَذَا الِاسْم بِعَيْنِهَا دُون سَائِر الْبَلَدَانِ غَيْرهَا . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي ذَلِكَ نَظِير اخْتِلَاف الْقُرَّاء فِي قِرَاءَته . 902 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { اهْبِطُوا مِصْرًا } أَيْ مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار { فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } . 903 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : { اهْبِطُوا مِصْرًا } مِنْ الْأَمْصَار , { فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ التِّيه رُفِعَ الْمَنّ وَالسَّلْوَى وَأَكَلُوا الْبُقُول . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنِي آدَم , قَالَ : ثنا أَبُو جَعْفَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { اهْبِطُوا مِصْرًا } قَالَ : يَعْنِي مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار . 904 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد : { اهْبِطُوا مِصْرًا } قَالَ : مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار , زَعَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَرْجِعُوا إلَى مِصْر . 905 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد : { اهْبِطُوا مِصْرًا } قَالَ : مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار . وَمِصْر لَا تَجْرِي فِي الْكَلَام , فَقِيلَ : أَيْ مِصْر ؟ فَقَالَ : الْأَرْض الْمُقَدَّسَة الَّتِي كَتَبَ اللَّه لَهُمْ . وَقَرَأَ قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { اُدْخُلُوا الْأَرْض الْمُقَدَّسَة الَّتِي كَتَبَ اللَّه لَكُمْ } 5 21 وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ مِصْر الَّتِي كَانَ فِيهَا فِرْعَوْن . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 906 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , ثنا آدَم , ثنا أَبُو جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة فِي قَوْله : { اهْبِطُوا مِصْرًا } قَالَ : يَعْنِي بِهِ مِصْر فِرْعَوْن . 907 - حَدَّثَنَا عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , عَنْ ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , مِثْله . وَمِنْ حُجَّة مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ : { اهْبِطُوا مِصْرًا } مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَار دُون مِصْر فِرْعَوْن بِعَيْنِهَا , أَنَّ اللَّه حَمَلَ أَرْض الشَّام لِبَنِي إسْرَائِيل مَسَاكِن بَعْد أَنْ أَخَرَجَهُمْ مِنْ مِصْر , وَإِنَّمَا ابْتَلَاهُمْ بِالتِّيهِ بِامْتِنَاعِهِمْ عَلَى مُوسَى فِي حَرْب الْجَبَابِرَة إذْ قَالَ لَهُمْ : { يَا قَوْم اُدْخُلُوا الْأَرْض الْمُقَدَّسَة الَّتِي كَتَبَ اللَّه لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَاركُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ } إلَى قَوْله : { إنَّا لَنْ نَدْخُلهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } 5 21 : 24 فَحَرَّمَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ عَلَى قَائِل ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا دُخُولهَا حَتَّى هَلَكُوا فِي التِّيه وَابْتَلَاهُمْ بِالتَّيْهَانِ فِي الْأَرْض أَرْبَعِينَ سَنَة , ثُمَّ أَهَبَطَ ذُرِّيَّتهَا الشَّام , فَأَسْكَنَهُمْ الْأَرْض الْمُقَدَّسَة , وَجَعَلَ هَلَاك الْجَبَابِرَة عَلَى أَيْدِيهمْ مَعَ يُوشَع بْن نُون بَعْد وَفَاة مُوسَى بْن عِمْرَان . فَرَأَيْنَا اللَّه جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ كَتَبَ لَهُمْ الْأَرْض الْمُقَدَّسَة وَلَمْ يُخْبِرنَا عَنْهُمْ أَنَّهُ رَدَّهُمْ إلَى مِصْر بَعْد إخْرَاجه إيَّاهُمْ مِنْهَا , فَيَجُوز لَنَا أَنْ نَقْرَأ اهْبِطُوا مِصْر , وَنَتَأَوَّلهُ أَنَّهُ رَدَّهُمْ إلَيْهَا . قَالُوا : فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجّ بِقَوْلِ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّات وَعُيُون وَكُنُوز وَمَقَام كَرِيم كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إسْرَائِيل } 26 57 : 59 قِيلَ لَهُمْ : فَإِنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا أَوْرَثَهُمْ ذَلِكَ فَمَلَّكَهُمْ إيَّاهَا وَلَمْ يَرُدّهُمْ إلَيْهَا , وَجَعَلَ مَسَاكِنهمْ الشَّأْم . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ اللَّه إنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ : { اهْبِطُوا مِصْرًا } مِصْر , فَإِنَّ مِنْ حُجَّتهمْ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا الْآيَة الَّتِي قَالَ فِيهَا : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّات وَعُيُون وَكُنُوز وَمَقَام كَرِيم كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهُمْ بَنِي إسْرَائِيل } 26 57 : 59 وَقَوْله : { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّات وَعُيُون وَزُرُوع وَمَقَام كَرِيم وَنَعْمَة كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ } 44 25 : 28 قَالُوا : فَأَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ قَدْ وَرَّثَهُمْ ذَلِكَ وَجَعَلَهَا لَهُمْ , فَلَمْ يَكُونُوا يَرِثُونَهَا ثُمَّ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا . قَالُوا : وَلَا يَكُونُونَ مُنْتَفَعِينَ بِهَا إلَّا بِمُصِيرِ بَعْضهمْ إلَيْهَا , وَإِلَّا فَلَا وَجْه لِلِانْتِفَاعِ بِهَا إنْ لَمْ يَصِيرُوا أَوْ يَصِرْ بَعْضهمْ إلَيْهَا . قَالُوا : وَأُخْرَى أَنَّهَا فِي قِرَاءَة أُبَيّ بْن كَعْب وَعَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : " اهْبِطُوا مِصْر " بِغَيْرِ أَلِف , قَالُوا : فَفِي ذَلِكَ الدَّلَالَة الْبَيِّنَة أَنَّهَا مِصْر بِعَيْنِهَا . وَاَلَّذِي نَقُول بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا دَلَالَة فِي كِتَاب اللَّه عَلَى الصَّوَاب مِنْ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ , وَلَا خَبَر بِهِ عَنْ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقْطَع مَجِيئَهُ الْعُذْر , وَأَهْل التَّأْوِيل مُتَنَازِعُونَ تَأْوِيله . فَأَوْلَى الْأَقْوَال فِي ذَلِكَ عِنْدنَا بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَال : إنَّ مُوسَى سَأَلَ رَبّه أَنْ يُعْطِيَ قَوْمه مَا سَأَلُوهُ مِنْ نَبَات الْأَرْض عَلَى مَا بَيَّنَهُ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ فِي كِتَابه وَهُمْ فِي الْأَرْض تَائِهُونَ , فَاسْتَجَابَ اللَّه لِمُوسَى دُعَاءَهُ , وَأَمَرَهُ أَنْ يَهْبِط بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمه قَرَارًا مِنْ الْأَرْض الَّتِي تُنْبِت لَهُمْ مَا سَأَلَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ , إذْ كَانَ الَّذِي سَأَلُوهُ لَا تُنْبِتهُ إلَّا الْقُرَى وَالْأَمْصَار وَأَنَّهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ إذْ صَارُوا إلَيْهِ , وَجَائِز أَنْ يَكُون ذَلِكَ الْقَرَار مِصْر , وَجَائِز أَنْ يَكُون الشَّأْم . فَأَمَّا الْقِرَاءَة فَإِنَّهَا بِالْأَلِفِ وَالتَّنْوِين : { اهْبِطُوا مِصْرًا } وَهِيَ الْقِرَاءَة الَّتِي لَا يَجُوز عِنْدِي غَيْرهَا لِاجْتِمَاعِ خُطُوط مَصَاحِف الْمُسْلِمِينَ , وَاتِّفَاق قِرَاءَة الْقُرَّاء عَلَى ذَلِكَ . وَلَمْ يُقْرَأ بِتَرْكِ التَّنْوِين فِيهِ وَإِسْقَاط الْأَلِف مِنْهُ إلَّا مَنْ لَا يَجُوز الِاعْتِرَاض بِهِ عَلَى الْحُجَّة فِيمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ الْقِرَاءَة مُسْتَفِيضًا بَيْنهمَا .' الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة } قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَضُرِبَتْ } أَيْ فُرِضَتْ . وَوُضِعَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة وَأُلْزِمُوهَا ; مِنْ قَوْل الْقَائِل : ضَرَبَ الْإِمَام الْجِزْيَة عَلَى أَهْل الذِّمَّة . وَضَرَبَ الرَّجُل عَلَى عَبْده الْخَرَاج ; يَعْنِي بِذَلِكَ وَضَعَهُ فَأَلْزَمهُ إيَّاهُ , وَمِنْ قَوْلهمْ : ضَرَبَ الْأَمِير عَلَى الْجَيْش الْبَعْث , يُرَاد بِهِ أَلْزَمَهُمُوهُ . وَأَمَّا الذِّلَّة , فَهِيَ الْفِعْلَة مِنْ قَوْل الْقَائِل : ذَلَّ فُلَان يَذِلّ ذُلًّا وذلة . كَالصِّغْرَةِ من صَغُرَ الْأَمْر , وَالْقِعْدَة من قَعَدَ , وَالذِّلَّة : هي الصَّغَار الَّذِي أَمَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُعْطُوهُمْ أَمَانًا عَلَى الْقَرَار عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرهمْ بِهِ وَبِرَسُولِهِ إلَّا أَنْ يَبْذُلُوا الْجِزْيَة عَلَيْهِ لَهُمْ , فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله وَلَا يَدِينُونَ دِين الْحَقّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ } 9 29 كَمَا : 908 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق . قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَةُ فِي قَوْله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة } قَالَا : يُعْطُونَ الْجِزْيَة عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ . وَأَمَّا الْمَسْكَنَة , فَإِنَّهَا مَصْدَر الْمِسْكِين , يُقَال : مَا فِيهِمْ أَسْكَن مِنْ فُلَان وَمَا كَانَ مِسْكِينًا وَلَقَدْ تُمْسَكْنَ مَسْكَنَة . وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَقُول تُمْسَكْنَ تَمَسْكُنًا . وَالْمَسْكَنَة فِي هَذَا الْمَوْضِع مَسْكَنَة الْفَاقَة وَالْحَاجَة , وَهِيَ خُشُوعهَا وَذُلّهَا . كَمَا : 909 - حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم . قَالَ : ثنا آدَم , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة فِي قَوْله : { وَالْمَسْكَنَة } قَالَ : الْفَاقَة 910 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ ثنا عَمْرو بْن حَمَّاد . قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ , قَوْله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة } قَالَ : الْفَقْر . 911 - وَحَدَّثَنِي يُونُس , قَالَة : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب . قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة } قَالَ هَؤُلَاءِ يَهُود بَنِي إسْرَائِيل . قُلْت لَهُ : هُمْ قِبْط مِصْر ؟ قَالَ : وَمَا لِقِبْطِ مِصْر وَهَذَا ؟ لَا وَاَللَّه مَا هُمْ هُمْ , وَلَكِنَّهُمْ الْيَهُود يَهُود بَنِي إسْرَائِيل . فَأَخْبَرَهُمْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ يُبَدِّلهُمْ بِالْعِزِّ ذُلًّا , وَبِالنِّعْمَةِ بُؤْسًا , وَبِالرِّضَا عَنْهُمْ غَضَبًا , جَزَاء مِنْهُ لَهُمْ عَلَى كُفْرهمْ بِآيَاتِهِ وَقَتْلهمْ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُله اعْتِدَاء وَظُلْمًا مِنْهُمْ بِغَيْرِ حَقّ , وَعِصْيَانهمْ لَهُ , وَخِلَافًا عَلَيْهِ . الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة } قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَضُرِبَتْ } أَيْ فُرِضَتْ . وَوُضِعَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة وَأُلْزِمُوهَا ; مِنْ قَوْل الْقَائِل : ضَرَبَ الْإِمَام الْجِزْيَة عَلَى أَهْل الذِّمَّة . وَضَرَبَ الرَّجُل عَلَى عَبْده الْخَرَاج ; يَعْنِي بِذَلِكَ وَضَعَهُ فَأَلْزَمهُ إيَّاهُ , وَمِنْ قَوْلهمْ : ضَرَبَ الْأَمِير عَلَى الْجَيْش الْبَعْث , يُرَاد بِهِ أَلْزَمَهُمُوهُ . وَأَمَّا الذِّلَّة , فَهِيَ الْفِعْلَة مِنْ قَوْل الْقَائِل : ذَلَّ فُلَان يَذِلّ ذُلًّا وذلة . كَالصِّغْرَةِ من صَغُرَ الْأَمْر , وَالْقِعْدَة من قَعَدَ , وَالذِّلَّة : هي الصَّغَار الَّذِي أَمَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُعْطُوهُمْ أَمَانًا عَلَى الْقَرَار عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرهمْ بِهِ وَبِرَسُولِهِ إلَّا أَنْ يَبْذُلُوا الْجِزْيَة عَلَيْهِ لَهُمْ , فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله وَلَا يَدِينُونَ دِين الْحَقّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ } 9 29 كَمَا : 908 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق . قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَةُ فِي قَوْله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة } قَالَا : يُعْطُونَ الْجِزْيَة عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ . وَأَمَّا الْمَسْكَنَة , فَإِنَّهَا مَصْدَر الْمِسْكِين , يُقَال : مَا فِيهِمْ أَسْكَن مِنْ فُلَان وَمَا كَانَ مِسْكِينًا وَلَقَدْ تُمْسَكْنَ مَسْكَنَة . وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَقُول تُمْسَكْنَ تَمَسْكُنًا . وَالْمَسْكَنَة فِي هَذَا الْمَوْضِع مَسْكَنَة الْفَاقَة وَالْحَاجَة , وَهِيَ خُشُوعهَا وَذُلّهَا . كَمَا : 909 - حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم . قَالَ : ثنا آدَم , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة فِي قَوْله : { وَالْمَسْكَنَة } قَالَ : الْفَاقَة 910 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ ثنا عَمْرو بْن حَمَّاد . قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ , قَوْله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة } قَالَ : الْفَقْر . 911 - وَحَدَّثَنِي يُونُس , قَالَة : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب . قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة } قَالَ هَؤُلَاءِ يَهُود بَنِي إسْرَائِيل . قُلْت لَهُ : هُمْ قِبْط مِصْر ؟ قَالَ : وَمَا لِقِبْطِ مِصْر وَهَذَا ؟ لَا وَاَللَّه مَا هُمْ هُمْ , وَلَكِنَّهُمْ الْيَهُود يَهُود بَنِي إسْرَائِيل . فَأَخْبَرَهُمْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ يُبَدِّلهُمْ بِالْعِزِّ ذُلًّا , وَبِالنِّعْمَةِ بُؤْسًا , وَبِالرِّضَا عَنْهُمْ غَضَبًا , جَزَاء مِنْهُ لَهُمْ عَلَى كُفْرهمْ بِآيَاتِهِ وَقَتْلهمْ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُله اعْتِدَاء وَظُلْمًا مِنْهُمْ بِغَيْرِ حَقّ , وَعِصْيَانهمْ لَهُ , وَخِلَافًا عَلَيْهِ . ' الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه } قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه } انْصَرَفُوا وَرَجَعُوا , وَلَا يُقَال بَاءُوا إلَّا مَوْصُولًا إمَّا بِخَيْرٍ وَإِمَّا بِشَرٍّ , يُقَال مِنْهُ : بَاءَ فُلَان بِذَنْبِهِ يَبُوء بِهِ بَوْءًا وَبَوَاء . وَمِنْهُ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ { إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوء بِإِثْمِي وَإِثْمك } يَعْنِي : تَنْصَرِف مُتَحَمِّلهمَا وَتَرْجِع بِهِمَا قَدْ صَارَا عَلَيْك دُونِي . فَمَعْنَى الْكَلَام إذًا : وَرَجَعُوا مُنْصَرَفِينَ مُتَحَمِّلِينَ غَضَب اللَّه , قَدْ صَارَ عَلَيْهِمْ مِنْ اللَّه غَضَب , وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ سَخَط . كَمَا : 912 - حَدَّثَنَا عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع فِي قَوْله : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه } فَحَدَثَ عَلَيْهِمْ غَضَب مِنْ اللَّه . 913 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن أَبِي طَالِب , قَالَ : أَخْبَرَنَا يَزِيد , قَالَ : أَخْبَرَنَا جُوَيْبِر , عَنْ الضَّحَّاك فِي قَوْله : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه } قَالَ : اسْتَحَقُّوا الْغَضَب مِنْ اللَّه . وَقَدَّمْنَا مَعْنَى غَضَب اللَّه عَلَى عَبْده فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا هَذَا , فَأَغْنَى عَنْ إعَادَته فِي هَذَا الْمَوْضِع . الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه } قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه } انْصَرَفُوا وَرَجَعُوا , وَلَا يُقَال بَاءُوا إلَّا مَوْصُولًا إمَّا بِخَيْرٍ وَإِمَّا بِشَرٍّ , يُقَال مِنْهُ : بَاءَ فُلَان بِذَنْبِهِ يَبُوء بِهِ بَوْءًا وَبَوَاء . وَمِنْهُ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ { إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوء بِإِثْمِي وَإِثْمك } يَعْنِي : تَنْصَرِف مُتَحَمِّلهمَا وَتَرْجِع بِهِمَا قَدْ صَارَا عَلَيْك دُونِي . فَمَعْنَى الْكَلَام إذًا : وَرَجَعُوا مُنْصَرَفِينَ مُتَحَمِّلِينَ غَضَب اللَّه , قَدْ صَارَ عَلَيْهِمْ مِنْ اللَّه غَضَب , وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ سَخَط . كَمَا : 912 - حَدَّثَنَا عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع فِي قَوْله : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه } فَحَدَثَ عَلَيْهِمْ غَضَب مِنْ اللَّه . 913 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن أَبِي طَالِب , قَالَ : أَخْبَرَنَا يَزِيد , قَالَ : أَخْبَرَنَا جُوَيْبِر , عَنْ الضَّحَّاك فِي قَوْله : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه } قَالَ : اسْتَحَقُّوا الْغَضَب مِنْ اللَّه . وَقَدَّمْنَا مَعْنَى غَضَب اللَّه عَلَى عَبْده فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا هَذَا , فَأَغْنَى عَنْ إعَادَته فِي هَذَا الْمَوْضِع .' الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه } قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : " ذَلِكَ " ضَرَبَ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة عَلَيْهِمْ , وَإِحْلَاله غَضَبه بِهِمْ . فَدَلَّ بِقَوْلِهِ : " ذَلِكَ " - وَهِيَ يَعْنِي بِهِ مَا وَصَفْنَا عَلَى أَنْ قَوْل الْقَائِل ذَلِكَ يَشْمَل الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَة إذَا أُشِيرَ بِهِ إلَيْهَا . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ } : مِنْ أَجْل أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ , يَقُول : فَعَلْنَا بِهِمْ مِنْ إحْلَال الذُّلّ وَالْمَسْكَنَة وَالسَّخَط بِهِمْ مِنْ أَجْل أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه , وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ , كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَة : مَلِيكِيَّةٌ جَاوَرَتْ بِالْحِجَا ز قَوْمًا عُدَاة وَأَرْضًا شَطِيرَا بِمَا قَدْ تَرَبَّع رَوْض الْقَطَا وَرَوْض التَّنَاضِب حَتَّى تَصِيرَا يَعْنِي بِذَلِكَ : جَاوَرَتْ بِهَذَا الْمَكَان هَذِهِ الْمَرْأَة قَوْمًا عُدَاة وَأَرْضًا بَعِيدَة مِنْ أَهْله - لِمَكَانِ قُرْبهَا كَانَ مِنْهُ وَمِنْ قَوْمه وَبَلَده - مِنْ تَرَبُّعهَا رَوْض الْقَطَا وَرَوْض التَّنَاضِب . فَكَذَلِكَ قَوْله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه } يَقُول : كَانَ ذَلِكَ مِنَّا بِكُفْرِهِمْ بِآيَاتِنَا , وَجَزَاء لَهُمْ بِقَتْلِهِمْ أَنْبِيَاءَنَا . وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا أَنَّ مَعْنَى الْكُفْر : تَغْطِيَة الشَّيْء وَسِتْره , وَأَنَّ آيَات اللَّه : حُجَجه وَأَعْلَامه وَأَدِلَّته عَلَى تَوْحِيده وَصِدْق رُسُله . فَمَعْنَى الْكَلَام إذًا : فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ مِنْ أَجْل أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْحَدُونَ حُجَج اللَّه عَلَى تَوْحِيده , وَتَصْدِيق رُسُله وَيَدْفَعُونَ حَقِيَتهَا , وَيَكْذِبُونَ بِهَا . الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه } قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : " ذَلِكَ " ضَرَبَ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة عَلَيْهِمْ , وَإِحْلَاله غَضَبه بِهِمْ . فَدَلَّ بِقَوْلِهِ : " ذَلِكَ " - وَهِيَ يَعْنِي بِهِ مَا وَصَفْنَا عَلَى أَنْ قَوْل الْقَائِل ذَلِكَ يَشْمَل الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَة إذَا أُشِيرَ بِهِ إلَيْهَا . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ } : مِنْ أَجْل أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ , يَقُول : فَعَلْنَا بِهِمْ مِنْ إحْلَال الذُّلّ وَالْمَسْكَنَة وَالسَّخَط بِهِمْ مِنْ أَجْل أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه , وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ , كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَة : مَلِيكِيَّةٌ جَاوَرَتْ بِالْحِجَا ز قَوْمًا عُدَاة وَأَرْضًا شَطِيرَا بِمَا قَدْ تَرَبَّع رَوْض الْقَطَا وَرَوْض التَّنَاضِب حَتَّى تَصِيرَا يَعْنِي بِذَلِكَ : جَاوَرَتْ بِهَذَا الْمَكَان هَذِهِ الْمَرْأَة قَوْمًا عُدَاة وَأَرْضًا بَعِيدَة مِنْ أَهْله - لِمَكَانِ قُرْبهَا كَانَ مِنْهُ وَمِنْ قَوْمه وَبَلَده - مِنْ تَرَبُّعهَا رَوْض الْقَطَا وَرَوْض التَّنَاضِب . فَكَذَلِكَ قَوْله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه } يَقُول : كَانَ ذَلِكَ مِنَّا بِكُفْرِهِمْ بِآيَاتِنَا , وَجَزَاء لَهُمْ بِقَتْلِهِمْ أَنْبِيَاءَنَا . وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا أَنَّ مَعْنَى الْكُفْر : تَغْطِيَة الشَّيْء وَسِتْره , وَأَنَّ آيَات اللَّه : حُجَجه وَأَعْلَامه وَأَدِلَّته عَلَى تَوْحِيده وَصِدْق رُسُله . فَمَعْنَى الْكَلَام إذًا : فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ مِنْ أَجْل أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْحَدُونَ حُجَج اللَّه عَلَى تَوْحِيده , وَتَصْدِيق رُسُله وَيَدْفَعُونَ حَقِيَتهَا , وَيَكْذِبُونَ بِهَا .' وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ } : وَيَقْتُلُونَ رُسُل اللَّه الَّذِينَ ابْتَعَثَهُمْ لِإِنْبَاءِ مَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ عَنْهُ لِمَنْ أُرْسِلُوا إلَيْهِ . وَهُمْ جِمَاع وَأَحَدهمْ نَبِيّ , غَيْر مَهْمُوز , وَأَصْله الْهَمْز , لِأَنَّهُ مِنْ أَنْبَأَ عَنْ اللَّه , فَهُوَ يُنْبِئ عَنْهُ إنْبَاء , وَإِنَّمَا الِاسْم مِنْهُ مُنْبِئ وَلَكِنَّهُ صُرِفَ وَهُوَ " مُفْعِل " إلَى " فَعِيل " , كَمَا صُرِفَ سَمِيع إلَى فَعِيل مِنْ مُفْعِل , وَبَصِير مِنْ مُبْصِر , وَأَشْبَاه ذَلِكَ , وَأَبْدَلَ مَكَان الْهَمْزَة مِنْ النَّبِيء الْيَاء , فَقِيلَ نَبِيّ . هَذَا وَمَجْمَع النَّبِيّ أَيْضًا عَلَى أَنْبِيَاء , وَإِنَّمَا جَمَعُوهُ كَذَلِكَ لِإِلْحَاقِهِمْ النَّبِيء بِإِبْدَالِ الْهَمْزَة مِنْهُ يَاء بِالْمَنْعُوتِ الَّتِي تَأْتِي عَلَى تَقْدِير فَعِيل مِنْ ذَوَات الْيَاء وَالْوَاو . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إذَا أَجَمَعُوا مَا كَانَ مِنْ الْمَنْعُوت عَلَى تَقْدِير فَعِيل مِنْ ذَوَات الْيَاء وَالْوَاو جَمَعُوهُ عَلَى أَفَعِلَاء , كَقَوْلِهِمْ وَلِيّ وَأَوْلِيَاء . وَوَصِيّ وَأَوْصِيَاء . وَدَعِيّ وَأَدْعِيَاء . وَلَوْ جَمَعُوهُ عَلَى أَصْله الَّذِي هُوَ أَصْله . وَعَلَى أَنَّ الْوَاحِد " نَبِيء " مَهْمُوز لَجَمَعُوهُ عَلَى فَعِلَاء , فَقِيلَ لَهُمْ النُّبَآء , عَلَى مِثَال النُّبَغَاء , لِأَنَّ ذَلِكَ جَمْع مَا كَانَ عَلَى فَعِيل مِنْ غَيْر ذَوَات الْيَاء وَالْوَاو مِنْ الْمَنْعُوت كَجَمْعِهِمْ الشَّرِيك شُرَكَاء , وَالْعَلِيم عُلَمَاء . وَالْحَكِيم حُكَمَاء , وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ . وَقَدْ حُكِيَ سَمَاعًا مِنْ الْعَرَب فِي جَمْع النَّبِيّ النُّبَآء , وَذَلِكَ مِنْ لُغَة الَّذِينَ يَهْمِزُونَ النَّبِيء , ثُمَّ يَجْمَعُونَهُ عَلَى النُّبَآء عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْت , وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل عَبَّاس بْن مِرْدَاس فِي مَدْح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ . يَا خَاتَم النُّبَآء إنَّك مُرْسَل بِالْخَبَرِ كُلّ هُدًى السَّبِيل هُدَاكَا فَقَالَ . يَا خَاتَم النُّبَآء , عَلَى أَنَّ وَاحِدهمْ نَبِيء مَهْمُوز . وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ : النَّبِيّ وَالنُّبُوَّة غَيْر مَهْمُوز . لِأَنَّهُمَا مَأْخُوذَانِ مِنْ النُّبُوَّة , وَهِيَ مِثْل النَّجْوَة , وَهُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفِع . وَكَانَ يَقُول أَنَّ أَصْل النَّبِيّ الطَّرِيق , وَيَسْتَشْهِد عَلَى ذَلِكَ بِبَيْتِ القطامي : لَمَّا وَرَدْنَ نَبِيًّا وَاسْتَتَبَّ بِهَا مُسْحَنْفِرٌ كَخُطُوطِ السَّيْح مُنْسَحِل يَقُول : إنَّمَا سَمَّى الطَّرِيق نَبِيًّا , لِأَنَّهُ ظَاهِر مُسْتَبِين مِنْ النُّبُوَّة . وَيَقُول . لَمْ أَسْمَع أَحَدًا يَهْمِز النَّبِيّ . قَالَ . وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي ذَلِكَ وَبَيَّنَّا مَا فِيهِ الْكِفَايَة إنْ شَاءَ اللَّه . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ } : أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ رُسُل اللَّه بِغَيْرِ إذْن اللَّه لَهُمْ بِقَتْلِهِمْ مُنْكَرِينَ رِسَالَتهمْ جَاحِدِينَ نُبُوَّتهمْ .وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ } : وَيَقْتُلُونَ رُسُل اللَّه الَّذِينَ ابْتَعَثَهُمْ لِإِنْبَاءِ مَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ عَنْهُ لِمَنْ أُرْسِلُوا إلَيْهِ . وَهُمْ جِمَاع وَأَحَدهمْ نَبِيّ , غَيْر مَهْمُوز , وَأَصْله الْهَمْز , لِأَنَّهُ مِنْ أَنْبَأَ عَنْ اللَّه , فَهُوَ يُنْبِئ عَنْهُ إنْبَاء , وَإِنَّمَا الِاسْم مِنْهُ مُنْبِئ وَلَكِنَّهُ صُرِفَ وَهُوَ " مُفْعِل " إلَى " فَعِيل " , كَمَا صُرِفَ سَمِيع إلَى فَعِيل مِنْ مُفْعِل , وَبَصِير مِنْ مُبْصِر , وَأَشْبَاه ذَلِكَ , وَأَبْدَلَ مَكَان الْهَمْزَة مِنْ النَّبِيء الْيَاء , فَقِيلَ نَبِيّ . هَذَا وَمَجْمَع النَّبِيّ أَيْضًا عَلَى أَنْبِيَاء , وَإِنَّمَا جَمَعُوهُ كَذَلِكَ لِإِلْحَاقِهِمْ النَّبِيء بِإِبْدَالِ الْهَمْزَة مِنْهُ يَاء بِالْمَنْعُوتِ الَّتِي تَأْتِي عَلَى تَقْدِير فَعِيل مِنْ ذَوَات الْيَاء وَالْوَاو . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إذَا أَجَمَعُوا مَا كَانَ مِنْ الْمَنْعُوت عَلَى تَقْدِير فَعِيل مِنْ ذَوَات الْيَاء وَالْوَاو جَمَعُوهُ عَلَى أَفَعِلَاء , كَقَوْلِهِمْ وَلِيّ وَأَوْلِيَاء . وَوَصِيّ وَأَوْصِيَاء . وَدَعِيّ وَأَدْعِيَاء . وَلَوْ جَمَعُوهُ عَلَى أَصْله الَّذِي هُوَ أَصْله . وَعَلَى أَنَّ الْوَاحِد " نَبِيء " مَهْمُوز لَجَمَعُوهُ عَلَى فَعِلَاء , فَقِيلَ لَهُمْ النُّبَآء , عَلَى مِثَال النُّبَغَاء , لِأَنَّ ذَلِكَ جَمْع مَا كَانَ عَلَى فَعِيل مِنْ غَيْر ذَوَات الْيَاء وَالْوَاو مِنْ الْمَنْعُوت كَجَمْعِهِمْ الشَّرِيك شُرَكَاء , وَالْعَلِيم عُلَمَاء . وَالْحَكِيم حُكَمَاء , وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ . وَقَدْ حُكِيَ سَمَاعًا مِنْ الْعَرَب فِي جَمْع النَّبِيّ النُّبَآء , وَذَلِكَ مِنْ لُغَة الَّذِينَ يَهْمِزُونَ النَّبِيء , ثُمَّ يَجْمَعُونَهُ عَلَى النُّبَآء عَلَى مَا قَدْ بَيَّنْت , وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل عَبَّاس بْن مِرْدَاس فِي مَدْح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ . يَا خَاتَم النُّبَآء إنَّك مُرْسَل بِالْخَبَرِ كُلّ هُدًى السَّبِيل هُدَاكَا فَقَالَ . يَا خَاتَم النُّبَآء , عَلَى أَنَّ وَاحِدهمْ نَبِيء مَهْمُوز . وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ : النَّبِيّ وَالنُّبُوَّة غَيْر مَهْمُوز . لِأَنَّهُمَا مَأْخُوذَانِ مِنْ النُّبُوَّة , وَهِيَ مِثْل النَّجْوَة , وَهُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفِع . وَكَانَ يَقُول أَنَّ أَصْل النَّبِيّ الطَّرِيق , وَيَسْتَشْهِد عَلَى ذَلِكَ بِبَيْتِ القطامي : لَمَّا وَرَدْنَ نَبِيًّا وَاسْتَتَبَّ بِهَا مُسْحَنْفِرٌ كَخُطُوطِ السَّيْح مُنْسَحِل يَقُول : إنَّمَا سَمَّى الطَّرِيق نَبِيًّا , لِأَنَّهُ ظَاهِر مُسْتَبِين مِنْ النُّبُوَّة . وَيَقُول . لَمْ أَسْمَع أَحَدًا يَهْمِز النَّبِيّ . قَالَ . وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي ذَلِكَ وَبَيَّنَّا مَا فِيهِ الْكِفَايَة إنْ شَاءَ اللَّه . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ } : أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ رُسُل اللَّه بِغَيْرِ إذْن اللَّه لَهُمْ بِقَتْلِهِمْ مُنْكَرِينَ رِسَالَتهمْ جَاحِدِينَ نُبُوَّتهمْ .' الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } وَقَوْله : { ذَلِكَ } رَدّ عَلَى " ذَلِكَ " الْأُولَى . وَمَعْنَى الْكَلَام : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة , وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه , مِنْ أَجْل كُفْرهمْ بِآيَاتِ اللَّه , وَقَتْلهمْ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ , مِنْ أَجْل عِصْيَانهمْ رَبّهمْ , وَاعْتِدَائِهِمْ حُدُوده ; فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا } وَالْمَعْنَى : ذَلِكَ بِعِصْيَانِهِمْ وَكُفْرهمْ مُعْتَدِينَ . وَالِاعْتِدَاء : تَجَاوُز الْحَدّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّه لِعِبَادِهِ إلَى غَيْره , وَكُلّ مُتَجَاوِز حَدّ شَيْء إلَى غَيْره فَقَدْ تَعَدَّاهُ إلَى مَا جَاوَزَ إلَيْهِ . وَمَعْنَى الْكَلَام : فَعَلْت بِهِمْ مَا فَعَلْت مِنْ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا أَمْرِي , وَتَجَاوَزُوا حَدِّي إلَى مَا نَهَيْتهمْ عَنْهُ . الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } وَقَوْله : { ذَلِكَ } رَدّ عَلَى " ذَلِكَ " الْأُولَى . وَمَعْنَى الْكَلَام : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة وَالْمَسْكَنَة , وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه , مِنْ أَجْل كُفْرهمْ بِآيَاتِ اللَّه , وَقَتْلهمْ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ , مِنْ أَجْل عِصْيَانهمْ رَبّهمْ , وَاعْتِدَائِهِمْ حُدُوده ; فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا } وَالْمَعْنَى : ذَلِكَ بِعِصْيَانِهِمْ وَكُفْرهمْ مُعْتَدِينَ . وَالِاعْتِدَاء : تَجَاوُز الْحَدّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّه لِعِبَادِهِ إلَى غَيْره , وَكُلّ مُتَجَاوِز حَدّ شَيْء إلَى غَيْره فَقَدْ تَعَدَّاهُ إلَى مَا جَاوَزَ إلَيْهِ . وَمَعْنَى الْكَلَام : فَعَلْت بِهِمْ مَا فَعَلْت مِنْ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا أَمْرِي , وَتَجَاوَزُوا حَدِّي إلَى مَا نَهَيْتهمْ عَنْهُ .'
تعليقات
إرسال تعليق