اقرؤوا القرآن - شرح أصول القراء لسورة الفاتحة وتعريف بالأئمة والإمام الشاطبي رحمه الله تعالى - لفضيلة الشيخ / عبد الحكيم عبد اللطيف - رحمه الله تعالى - تقديم / عماد الدين عبد الخالق









الإمام الشاطبي رحمه الله



مولده ونشأته

 هو أبو القاسم بن فيرٌه  بن خلف بن أحمد الشاطبي الأندلسي الرعيني الضرير .

مولده : ولد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة في الشاطبية شرقي الأندلس .

نشأته : كان ضريراً , وعنيت به أسرته فحفظ القرآن الكريم وتعلم طرفاً من الحديث والفقه إتجه إلى حلقات العلم التي كانت تعقد في مساجد شاطبه ومالت نفسه إلى علم القراءات فتلقاها على يد أبي عبد الله محمد بن أبي العاص النفري , ثم شد رحاله إلى بلنسية وكانت من حواضر العلم في الأندلس .

وممن كناه أبا القاسم كالسخاوي وغيره, لم يجعل له اسماً سواها والأكثرون على أنه أبو محمد القاسم .

كان فقيراً قال السخاوي : أقطع بأنه كان مكاشفاً , وأنه سأل الله كف حاله  .

ولقد أريد أن يلي الخطابة بلده فأمتنع من ذلك , لأجل مبالغة الخطباء على المنابر في وصف الملوك .



رحلاته ومشايخه . .

وتلا ببلده القراءات السبع على عبد الله بن أبي العاص النفري ثم رحل إلى بلنسية فقراء القراءات على أب الحسن بن هذيل , وعرض عليه كتاب (( التيسير )) وسمع منه الكتاب ومن أبي الحسن النعمه , وأبي عبد الله ابن سعاده , وأبي محمد بن عاشر , وأبي عبد الله بن عبد الرحيم , وعليم بن عبد العزيز .

ثم رحل للحج فسمع من أبي طاهر السلفي بالإسكندرية وغيره .

ولما دخل مصر أكرمه القاضي الفاضل وعرف مقداره وأنزله بمدرسة التي بناها بدرب الملوخيا داخل القاهرة وجعله شيخها , وعظمه تعظيماً كثيراً فجلس بها للإقراء .

ثم إنه لما فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بيت المقدس توجه فزار القدس وصام به شهر رمضان سنة سبع وثمانين وخمس مئة (587)هـ .

ثم رجع إلى القاهرة فأقام بالمدرسة الفاضليه يُقرئ حتى وفاته.

وكان الإمام الشاطبي إماماً كبيراً , أعجوبة في الذكاء كثير الفنون , آية من آيات الله تعالى , آية في القراءات , حافظاً للحديث بصيراً بالعربية إماماً في اللغة , ورأساً في الأدب , ومع الزهد والولاية والعبادة والإنقطاع والكشف .

شافعي المذهب , وكان ديَناً خاشعاً كثير الوقار لا يتكلم فيما لا يعنيه , ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة في هيئة حسنة وخضوع واستكانة , ويمنع جلساءه من الخوض إلا في العلم والقرآن , وكان يعتل العلة الشديدة ولا يشتكي , ولا يتأوه , وإذا سئل عن حاله قال : العافية , لا يزيد عل ذلك .وكان يتمثل كثيراً بهذه الأبيات , وهي لغز في النعش وهي لغيره

أتَـعرفُ شيئـاً في السٌماءِ يطِيرُ إذا سـارَ صـاح الناسُ حيثُ يسِيرُ

فتَلْقاهُ مركُوباً وتَلْقاه راكــباً وكــلٌ أميرٍ يعْتَـليه أسِــيـرُ

يحُثٌ على التقوَى ويُكْرَهُ قرْبُـه وتنْفِــرُ منه النفسُ وْهو نذيــرُ

ولم يُسْتَـزَهْ عن رغبةٍ في زيـارَةٍ ولـكِنْ علـى رغم المَــزورِ يزُورُ



دوره في نشر العلم الشرعي

منظومته (الشاطبية)..



تعد شهرة الشاطبي (رحمه الله) إلى منظومته (حرز الأماني ووجه التهاني) في القراءات السبع .



جمع ناظمه ما تواتر عن القراء السبعة وهم :



1- نافع المدني : هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم مولى جَعْوَنَةَ بن شعوب الليثي حليف حمزة بن عبد المطلب أصله من أصبهان ويكنى (( أبا رويم )) وقيل : أبا الحسن , وقيل أبا عبد الرحمن , توفي بالمدينة سنة تسع وستين ومائه .

وراوياه : قالون , وورش .

2- ابن كثير المكي : هو عبد الله بن كثير الداري مولى عمرو بن علقمة الكناني والداري [4] العطار ويكنى أبا معبد وهو من التابعين , وتوفي بمكة سنة عشرين ومائه .

وراوياه : قنبل , البزي .

3- أبو عمرو : هو أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن عبد الله بن الحصين بن الحرث بن جلهم بن خزاعي بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم ,قيل : اسمه زبان , وقيل (( العريان )) , وقيل : يحيى , وقيل : غير ذلك , وتوفي بالكوفة سنة أربع وخمسين ومائه .

وراوياه : الدوري , السوسي

4- ابن عامر الشامي : هو عبد الله بن عامر اليحصبي قاضي دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك ,ويكني (( أبا عمران )) وهو من التابعين وليس في القراء السبعة من العرب غيره وغير أبي عمرو والباقون هم موالٍ , وتوفي بدمشق سنة ثماني عشرة ومائه .

وراوياه : هشام , ابن ذكوان .

5-عاصم الكوفي : هو عاصم بن أبي النجود ويقال له (( ابن بهدلة )) , وقيل : اسم أبي النجود عبد وبهدلة اسم أمه وهو مولى نصر بن قعين الأسدي , ويكنى أبا بكر وهو من التابعين , لحق الحارث بن حسان وافد بني بكر , وتوفي بالكوفة سنة ثمان وقيل سنة سبع وعشرين ومائه .

وراوياه : حفص , شعبة .

6-حمزة : هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيات الفرضي التميمي مولى لهم , ويكنى أبا عمارة , وتوفي بحلوان [5] في خلافة أبي جعفر المنصور سنة ست وخمسين ومائه .

وراوياه : خلف , خلاد .

7- الكسائي : هو علي بن حمزة النحوي مولى لبنى أسد , ويكنى (( أبا الحسن )) وقيل له : الكسائي من أجل أنه أحرم في كساء , وتوفي برنبوية قرية من قرى الري حين توجه إلى خراسان مع الرشيد سنة تسع وثمانين ومائه .

وراوياه : أبو الحارث , الدوري [6] .

وهؤلاء القراء الذين نظم الشاطبي فيهم قصيدته.

كما قال في نظمه المبارك :

فَمِنْهُمْ بُدُورٌ سَبْعَةٌ قَدْ تَوَسَّطَتْ سَمَاءَ الْعُلَى واَلْعَدْلِ زُهْراً وَكُمَّلاَ

لَهَا شُهُبٌ عَنْهَا اُسْتَنَارَتْ فَنَوَّرَتْ سَوَادَ الدُّجَى حَتَّى تَفَرَّق وَانْجَلاَ

وَسَوْفَ تَرَاهُمْ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ مَعَ اثْنَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ مُتَمَثِّلاَ

ومتن الشاطبية ذلك النظم المدهش نجد الشاطبي لم يكتفِ بالقراءات فحسب , بل ضمن منظمته العديد من الفوائد النحوية , واللغوية والإرشادات الوعظيه , والإقتباسات الحديثة .

والشاطبية قصيدة لاميه اختصرت كتاب (( التيسير في القراءات السبع )) للإمام أبي عمرو الداني المتوفى سنة (444هــ / 1052م ) , وقد لقيت إقبالاً منقطع النظير , ولا يزال حتى هذا العمدة لمن يريد إتقان القراءات السبع , وظلت موضع اهتمام العلماء منذ أن نضمها الشاطبي رواية وأداءً , وذلك لإبداعها العجيب في استعمال الرمز وإدماجه في الكلام , حيث استعمله عوضاً عن أسماء القراء أو الرواة , فقد يدل الحرف على قارئ واحد أو أكثر من واحد , وهناك رموز ومصطلحات في المنظومة البديعة , لا يعرفها إلا من أتقن منهج الشاطبي وعرف مصطلحه , وقد ضمن في مقدمة المنظومة منهجه وطريقته , ومن أبياتها :

وَفي يُسْرِهَا التَّيْسِيرُ رُمْتُ اخْتَصَارَهُ فَأَجْنَتْ بِعَوْنِ اللهِ مِنْهُ مُؤَمَّلاَ

وَأَلْفَافُهَاً زَادَتْ بِنَشْــرِ فَـوَائِدٍ فَلَفَّتْ حَيَاءً وَجْهَهَا أَنْ تُفَضَّلاَ

وَسَـمَّيْتُهاَ "حِـرْزَ الْأَمَانِي" تَيَمُّناً وَوَجْهَ التَّهانِي فَاهْنِهِ مُتَقبِّلاَ

ولم يحظَ كتاب في القراءات بالعناية التي حظيت بها المنظومة , حيث كثر شراحها , وتعددت مختصراتها .

وقد حصر أحد الباحثين المغاربة أكثر من مائه عمل ما بين شرح للشاطبية , وحاشية على الشرح .

وهي من أوائل القصائد التي نظمت في علم القراءات إذ لم تكن أولها على الإطلاق وفضلاً عن أنها حوت القراءات السبع المتواترة في تعتبر من عيون الشعر بما اشتملت عليه من عذوبة الألفاظ ورصانة الأسلوب وجودة السبك وحسن الديباجة وجمال المطلع و المقطع وروعة المعنى وسمو التوجيه وبديع الحكم وحسن الإرشاد .

فهي بــحق كما قال العلامة ابن الجزري :

(من وقف على قصيدته علم مقدار ما آتاه الله في ذلك خصوصاً اللامية عجز البلغاء من بعده معارضتها فإنه لا يعرف مقدارها إلا من نظم على منوالها أو قابل بينها وبين ما نظم على طريقـتها ولقد رزق هذا الكتاب من الشهرة والقبول مالا أعلمه لكتاب غيره في هذا الفن بل أكاد أن أقول ولا في غير هذا الفن فأنني لا أحسب بلداً من بلاد الإسلام يخلو منه بل لا أظن أن بيت طالب علم يخلو من نسخة منه )

ولقد تنافس الناس فيها ورغبوا من اقتناء النسخ الصحاح منها وبالغ الناس في التغالي فيها حتى خرج بعضهم بذلك عن حد أن يكون لغير معصوم .

ويقول الإمام الذهبي في كتابه القراء الكبار :

(ولقد سارت الركبان بقصيدته حرز الأماني وعقيلة أتراب القصائد اللتين في القراءات والرسم وحفظهما خلق لا يحصون وخضع لها فحول الشعراء وكبار البلغاء وحذاق القراء فلقد أبدع وأوجز وسهل الصعب لذا تلقاها العلماء في سائر الأعصار والأمصار بالقبول الحسن وعنوا بها أعظم عناية من مقدمة محمد تميم الزعبي [7] ).

كراماته ووفاته

من كراماته :

ذكر بعضهم : أن الشاطبي كان يُصلي الصبح بالفاضلية ، ثم يجلس للإقراء ، فكان الناس يتسابقون إليه ، وكان إذا قعد لا يزيد على قوله : من جاء أوَّلاً فليقرأ ؛ ثم يأخذ على الأسبق فالأسبق ؛

فاتُّفق في بعض الأيام ، أن بعض أصحابه سبق أولاً ، فلما استوى الشيخ قاعداً قال : من جاء ثانياً فليقرأ ! فشرع الثاني في القراءة ، وبقي الأول لا يدري حاله! وأخذ يتفكر ما وقع منه بعد مفارقة الشيخ من ذنب أوجب حرمان الشيخ له ؟ ففطن أنه أذنب تلك الليلة ، ولشدة حرصه على التَّوْبة ، نسي ذلك لما انتبه ، فبادر إلى الشيخ ، فاطَّلع الشيخ على ذلك! فأشار للثاني بالقراءة!

ثم إن ذلك الرجل ، بادر إلى حمام جوار المدرسة ، فاغتسل به ، ثم رجع قبل فراغ الثاني ، والشيخ قاعد على حاله ، وكان ضريراً ، فلما فرغ الثاني قال الشيخ : من جاء أولاً فليقرأ! فقرأ . وهذا من أحسن ما نعلمه ، وقع لشيوخ هذه الطائفة .

وذكر العلاَّمة الشيخ علي القاري من كراماته : أنه كان يسمع الأذان من غير المؤذن ، وكان لا يظهر منه لذكاءه وفطنته ، ما يظهر من الأعمى في حركاته !

نقل الإمام القرطبي : أن الإمام الشاطبي رحمة الله تعالى لما فرغ من تصنيفه طاف به حول الكعبة اثنا عشر ألف أسبوع ، كلما جاء في أماكن الدعاء ، قال : اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، رب هذا البيت العظيم ، انفع بها كل من قرأها – يعني : هذا المتن ، باعتبار أنه قصيدة . –

وروي عنه – أيضاً – أنه رأي النبي في المنام ، فقام بين يديه وسلم عليه ، وقدم القصيدة إليه وقال : يا سيدي يا رسول الله! انظر هذه القصيدة! فتناولها النبي بيده المباركة وقال : « هي مباركة ، من حفظها دخل الجنة » زاد القرطبي : بل من مات وهي في بيته دخل الجنة .

وذكر في إخلاص الشاطبي للعلم ..

كان الشاطبي ـ رحمة الله عليه ـ قد كتب منظومته في قرطاس وجعل يطوف بها حول الكعبة مئات بل آلاف
المرات ، ويقول : يارب ، إن كنت قد قصدت بها وجهك فاكتب لها البقاء .. ولم يكتفِ بهذا ، بل وضعها في
قارورة وختم عليها وألقاها في البحر ، ثم دعا الله تعالى أن يبقيها إن كان يريد بها وجهه تعالى ..
ودارت الأيام ، وإذا بصياد يصيد السمك ، ويجد القارورة بين السمك فيفتحها ، فيجد فيها ورقة فيها قصائد
في القراءات ، فيقول في نفسه : والله لايعلم بها إلا الإمام الشاطبي ، سأذهب إليه واسأله عنها
وحينما دخل على الإمام ، وذكر له ما وجد في البحر ، قال له الإمام : افتحها واقرأ مافيها
فبدأ الصياد يقراء ، وإذا بالصياد يقرا والإمام الشاطبي يبكي وحكى ما كان من شأنه
ولذلك نجد الآن وفي كل بقعة من ارض الإسلام طلاب علم من كل لون ولسان القرآن يحفظونها ،
ويتعاهدونها وهي مشهورة جداً ، لان صاحبها اخلص في عمله !!

وفاتــه :

ظل الشاطبي في القاهرة يقيم حلقة في مدرسته , ويلتف حوله تلاميذ النابهون من أمثال أبي الحسن علي بن محمد الساخوي , وكان أنبغ تلاميذه , وانتهت إليه رئاسة الإقراء بعد شيخه .

ولم تطل بالشاطبي الحياة حيث توفي وعمره اثنان وخمسون عاماً في

(28 من جمادى الآخر 590هـ / 20 من يونيو 1194م )

ودفن في تربه القاضي الفاضل بالقرب من سفح جبل المقطم بالقاهرة وقبره مشهور ومعروف .

رحمه الله تعالى واسكنه فسيح جناته .

تعليقات